Size / / /

1328 words.

تتفرع أغصان شجرة الزيتون على شباك الغرفة الكبيرة المفتوح على خرافة  يرددها القريون عن عنكبوت تسكن البيت القديم الذي يتراءى على الهضبة. عنكبوت مسخ تضخم شكلها وهي تواصل أسر الأرواح المدنسة. لقد علقت بين شباكها وجوه غريبة على القرية، رجال بشعور ولحي مشعثة، ووجوه متفسخة وراء النقاب، ملامح هلامية جاءت للتخفي في بيت العنكبوت...

هناك بين الصخور الجبلية المنحوتة على شكل وجوه، تتحدث العجائز عن رجال ونساء مسخوا لأنهم كفروا بالنعمة. لكن من يجرؤ على الذهاب إلى أعلى الهضبة، ودخول بيت العنكبوت والتفرس في الأجسام التي تحللت في الصخر؟

الطقس لا يغري بالثرثرة مع القرويات في الطرق المثخنة بالمياة، سماء رمادية تراقب بتوجس خطوات المارة، وأشجار تنتصب كالأعمدة تصفع الرياح أوراقهاـ تتطاير في الهواء كرسائل شاحبة.

تاه ذهني في الخلاء، في البيوت المتروكة التي تعشش العناكب في اركانها، تغزل اللغة ظفائرها من غبار خانق. يمر قطاع الطرق بشعورهم المشعثة، يبحثون عن ستائر تواري وجوههم الكالحة..يمزقون صمت المكان بالحديث عن أرواح تستكين في الخلاء. يراودون المعنى في نظرات أعينهم الباحثة أبدا عن أسطورة المسخ، عن عنكبوت معلقة بخيط، تنسج شباكها للعابرين..

رعاة الاغنام الذين تناهى اليهم صراخ الغرباء في بيت العنكبوت منذ أيام، عثروا على جثث متفسخة الملامح جرفتها السيول، ولكنهم ارتعدوا حين وصلهم صوت  العنكبوت المسخ من الخلاء يدعوهم لمواصلة جز صوف الغنم وغزله ألا تحل عليهم اللعنة..

يتحلق الاطفال حول الرعاة ليكتشفوا كيف يجزون  صوف الخرفان بالمجز... أما القرويات فقد نهضن من الغد مع انبعاث خيوط الشمس الأولى وتجمعن حول الجدول المائي لغسل الصوف بالماء والصابون...وكل واحدة تنقل للأخريات ما تردد لزوجها من كلام الغرباء قبل أن تحيك العنكبوت شراكها الاسرة لهم..

يقول أحدهم: "تبا للعنكبوت المسخ، سوف أدهسها بأصابعي وأهتك شباكها قبل أن تتكثف السحب الرصاصية"..

ترتعش أصابعه، وتنهمر السيول تجرفه إلى هوة النهر السحيق. يستحيل إلى جثة متفسخة تحاكي حلمه برسم وطن دون ملامح.

يقول آخر: "لا منفذ لنا للهروب من الدبابات التي تحاصر الجبل إلا الاختباء في ذلك البيت المتروك حيث تستكين خرافات العجائز"، ويحاول زميله وهو يلكزه بمرفقه أن يدفعه إلى الاستسلام ورفع الراية البيضاء، فالموت يحاصرهم في هذا المكان، والعنكبوت المسخ لن تكون رحيمة بهم..فهي منهمكة في غزل ألياف شباكها المعقدة، شباك لا تختلف عن الياف الحرير التي تنتجها دودة القز... ولكنها حيكت بذبذبات روحها الآسرة..

ويشارك الأطفال أمهاتهم نقل الصوف المغسول من الجدول إلى دورالقرية المتناثرة في دلاء، ليوضع  فوق صناديق بلاستيكية مشبكة، و حين يجف تماما يتحلق أفراد كل عائلة مساء حول الصوف وبيد كل واحد منهم مشط بأسنان حادة ليخلصه من الشوائب العالقة به قبل غزله..

تغزل النسوة خيوط حكاية العنكبوت الأرملة كلما تجمعن وسط الدار، كل واحدة بيدها المغزل لفتل ألياف الصوف مع بعضها لتشكل خيطا من خيوط حكاية العنكبوت المسخ..

عنكبوت يدهشها عزف المطر يسري في النهر. يتناهى إليها صوت الماء يخضب الطين. تستمع الى صدى الماضي بين مسامات الطين في جوف النهر. طفلة تسرح شعرها الحريري يحاكي ألياف لوحة صنعتها من جدائل الآلهة. يعلو صوتها الطفولي يتردد في الخلاء كروح تحلق في  مكان يشيخ فيه الحجر..لم ينقطع صوتها الذي ترتعد له فرائس العابرين...

يبدو شكل المغزل بسيطا، ولذلك يبحث الأطفال في أكوام الحطب عن عصا سميكة يقومون بنجرها بسكين من في اتجاه الاسفل لتتخذ شكل اسطوانة، يحاكون أمهاتهم في  لف الخيوط حول عود المعزل عند برم الخيوط من الثقب الذي يتوسط الخشبة المستطيلة الشكل المثبتة في أعلى المغزل. يكفي أن يتحلق الأطفال حول أمهاتهم  لبرم الخيوط بين أصابع القدمين...وليدركوا مصير هؤلاء الغرباء في حكايات النسوة.

لا شيء يعني هؤلاء الغرباء عدا التخفي عن عيون تحرس الأوطان. في هذا المكان  لن يمر أي قاطع طريق او مروع وطن إلا ولقي حتفه كلما هطل المطر وانطلق صوت العنكبوت يحاكي صرخات فتاة حانقة...أجسام متحللة تجرفها السيول، ترفع بعيدا، وتردم دون أن تتعقبها حشود المشيعين الى المقابر، ودون أن يقرأوا عليها القران أو تقام جنازات لتشييعهم..تتعقبهم لعنات الشيوخ والأيتام والثكالى..

وحدها العنكبوت تعلمت أن تبني بيتها بآلاف الخيوط الطبيعية القوية، وحدها تعلمت أن ترى من كل الجهات بأعين ثمانية، وتصطاد فرائسها بثمانية أرجل. العنكبوت لم و لن تغادر مكانها ولن تطير الى بقاع أخرى. تنزوي في بيتها وتخبئ أسرارها بين أدراج المكان.

تتغير الفصول وتبدل الطبيعة أثوابها وهي تحيك ستائر بيتها وتحمي نفسها من الأعين المتلصصة. هي صديقة القرويين في محنهم، تحرس القرية من اللصوص وتفتك بالغرباء. تتغذى من الحشرات وتأسرروحها الكائنات المدمرة..خيوط رقيقة شفافة رهيفة لينة شفيفة صلبة ملتفة على بعضها،  تحاكي روح ملتحمة يصعب تمزيقها.

كانت العنكبوت في الزمن القريب امرأة شابة، تعلمت كيف تغزل و تنسج الخيوط، كما تعلمت فن السداية، تعلمت كيف تهندس شبكتها وتنسجها، كانت تبدو كمصمم بارع  عند سديها بواسطة خيوط ممتدة تربط بأربعة أوتار على شكل مستطيل. سداية تأخذ شكل شبكة من الخيوط المستقيمة والمنحنية مرتبة كأنها لوحة فنية بيد مصمم بارع. يصممها على مهل في حالة عزلة في زوايا البيوت المتروكة أو بين الأشجار أو في الأكواخ..

وكانت الشابة التي يحلم بها شباب القرية، الشابة الأكثر براعة في غزل الصوف وسديه، ولكنها كانت تستمع إلى صوت يناديها من الخلاء وهي تربط الخط الأول في السداية كما تربط العنكبوت الخط الأول من شبكتها بورقة توت اوزيتون أوبعشبة من الأعشاب الجبلية..

قتل والدها قطاع الطرق الذين يأتون من وراء الهضبة، وسرقوا قطيع أغنامه، ولم يبق من معيل لها ولإخواتها المتكومين حول أمهم بثياب بالية غير غزل الصوف، ونسجه... مع رغبتها في البكاء في غرفة متروكة طفقت تتأمل أرملة العنكبوت السوداء وهي تنسج شباكها وتفتك بفرائسها.. فصارت تختلي بنفسها هناك لتتأمل تلك العنكبوت السوداء وهي تحيك فخاخها..

يدفع ذهنها خيوط حكاية العنكبوت كما تدفع العنكبوت الخيوط من بطنها حين تهم بهندسة شبكتها، حين يلتقط الذهن الخط الأول من الحكاية باحثة عن صور مرت من الذاكرة..كان على ذهنها أن يصل خيوط الماضي بالحاضر، وأن يربط بين خيوط أرملة العنكبوت  وبين حكاية مقتل والدها وقد أطلت من الذاكرة وهي تربط بين نقاط الخيوط... أمعنت النظر في بيت أرملة العنكبوت القريب من شبكتها، ورقة أشبه بسرير فرش بخيوط مغزولة كخيوط الحرير..

كومت الأوراق النقدية التي جنتها من عمل أشهر في غزل الصوف وتسديته، وكلفت قريبها ببناء بيت فوق الهضبة، هناك نسجت معه شبكة عملها لاصطياد الغرباء وقطاع الطرق. هو بيتها الذي يحاكي بيت أرملة العنكبوت، تغري الغرباء بالاقتراب من البيت وهي تراودهم بابتسامتها العريضة، يحلمون بقضاء بعض الوقت على فراش من حرير مع شابة فاتنة..العنكبوت تحقن فريستها سما وتذيبها بلعابها، وهي تقدم لهم كؤوس النبيذ المسموم، ويتكفل قريبها بتجريد الغرباء من كل شيء بحوزتهم.

لم تعد تلك الشابة تسكن أحلام شبان القرية، ولم يعد أحد يرغب في الزواج منها، بل أصابتها لعنة العجائز، وتبرأت منها والدتها، ونكس إخوتها رؤوسهم في التراب بعدما صارت تعاشر الغرباء في ذلك البيت الذي يعلو الهضبة، قريبها الذي لا ينزل للقرية المنبسطة إلا نادرا ليبتاع حاجياتهما من المأكل والمشرب كان يحدثهم عن صلابة قريبته وهي تنسج شباكها للعابرين، امرأة شبقة تعاشرالغرباء ثم تسممهم وترميهم غذاء للديدان والحشرات وأحيانا تسكب البنزين على الجثث وتحولها إلى رماد..

اشتدت الحرارة في القرية تلتها رياح الخريف وأمطار شتاء بارد نزلت فيه الثلوج وأرملة العنكبوت تلازم بيتها المفتوح على الخلاء، ولكن غاب قريبها عن الأنظار وقيل إنها سممته بعدما راودها فراودته، لم يكن يعلم انها ليلته الأخيرة، لم يكن يعلم أن وفائه لها وتفانيه في خدمتها سيشفعا له للحد من عدائيتها، لم يغادر الفراش الحريري ولكنه لم ينهض منه...وانقطعت الخيوط التي تربط بين تلك الشابة وأهل القرية، إلى أن أصبح صوتها يتعالى في الخلاء، يربك الرعاة والغرباء...لقد أصابتها اللعنة فمسخت عنكبوتا في ذلك البيت المهجور..

أي لعنة تتحول الى بركة، وإلى حكايات اختلقها القرويون حول شابة مازلت تأسر النظر بجمالها البهي، ترفل في ثياب مطرزة، ترى في الصباح الباكر تنثر فخاخها للغربان المطلة من وراء الجبل، تمشط شعرها بنور الشمس المشعة من الشرق وتغتسل تحت المطر وتفتح يديها للريح لترقص رقصة الروح الطليقة..

أي بركة جعلت خيوطها العنكبوتية التي تشدها إلى أسرها لا ترى بل تحميها من الانحناء والسقوط، أي بركة جعلت القرويين يفكرون في تقديم الأضاحي لعابري السبيل والفقراء ويحتفظون بصوف الغنم لحياكة ما يتغطون به في ليالي الشتاء الباردة، وما يفترشونه في الليالي المقمرة، وما يعلقونه على جدران بيوتهم حين يفتحون شبابيك غرفهم ايام الربيع؟

تمتد اغصان الشجرة على النافذة وفوقها تحط عصافير تحلق صباحا الى ذلك البيت الذي يعتلي الهضبة. وتعود مساء بالحان تنساب في الروح تحاكي لغتها المنغمة.

أغلق شباك الغرفة المفتوح على خرافة العنكبوت الأرملة حين يتسلل الظلام، وتنام العصافير.

ومع اشراقة الصباح وحين تعانق السماء في زرقتها الناصعة المطلق..ترتسم خرافة العنكبوت بنور الشمس المشعة في كل الاتجاهات وتلونه بانعكاس المطلق على صفحات النهر وبين السيول، يعكس صور جثث متآكلة لغرباء تفسخت ملامحهم..



Houyem Ferchichi is a Tunisian literary journalist and short story writer. Her short stories have been published in numerous Tunisian and Arabic literary magazines. Her short story collections include The Scene and the Shadow, and Secret Tattoos, and she has written a book of criticism on Youssef Rzouga’s poetry.